الخالدون

هل فقدت أحدًا مؤخرًا؟
نعم.. هذا الحديث لك..
نظن أن الأيام تمضي في خط مستقيم..
حتى يأتينا يوم الفقد..
فجأة، تتبعثر الحياة، ويختل توازن كل ما حولنا. تنطفئ ملامح الأمان التي بدت لنا أبدية، ويغدو الزمن بطيئًا، كأننا داخل حلم ثقيل.
تأتي الصدمة قوية وجامدة، كأن الزمن توقف، ثم تتوالى المراحل: إنكار، حزن، وسؤال واحد يزحف كل ليلة: وماذا الآن؟
الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر ومارتن هايدجر تناولوا الفقد من زاوية العدمية، ورأوا أن الرحيل يذكّرنا بمحدودية الوجود وضرورة تقبل هذه الحقيقة. وفي الأدب، عبّر نجيب محفوظ في «الحرافيش» عن الفقد كجزء من دورة الحياة المستمرة، حيث لا يعني الرحيل النهاية، بل امتداد التجربة الإنسانية بما فيها من حضور وغياب.
ومع مرور الوقت، نتعلم أن استحضار صفات الراحلين ونشر ذكرهم الطيب ليس مجرد وفاء، بل فعل مقاومة للنسيان، وحفاظ على خيوطهم الممتدة فينا.
أدركت أن الفقد يترك مساحة بيضاء في الحكاية، تنتظر من يملؤها بالمعنى. اخترت أن أكون من الذين يملؤون تلك الصفحات.
حين رحل عمي، كان شغفه الأدب والكتابة، فقرأت وكتبت أكثر، حتى وصلت مقالاتي إلى أعرق الصحف. كنت أسمع صوته بين السطور: يا له من مقال بديع.. أكملي.
جاءت لحظة أخرى من الفقد، حين رحلت زوجة خالي. سألت نفسي: ما الصفات التي كانت تحبها وتزين بها حياتها؟ وجدت البهجة والكرم في قلبها، وكانت مضيافة لا يأتي أحد إلى بيتها إلا وامتلأت المائدة بما لذ وطاب. حتى في عزائها، كان المشهد امتدادًا لحياتها: أطباق عامرة وكأنها ما زالت تقول: تفضلوا… البيت بيتكم.
ولأنني أشاركها صفة البهجة، أيقنت أنها ستكون سعيدة لو واصلت ما بدأت..
عندها فهمت أن الفقد ليس نهاية الحكاية، بل بداية فصل جديد نكتبه نحن،
نحمل فيه الصفات التي أحبها الراحلون ونزرعها في حياتنا وحياة من حولنا..
وأنت.. أي صفة من «فقيدك، فقيدتك» تود أن تبقى خالدة ؟
raedaalsaba@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *