يظن الناس أن الزمن هو أغلى ما يملكون… يقيسون قيمته بالساعات، بالدقائق، بالثواني، كأنهم على مضمار سباق لا يتوقف…!
لكن الحقيقة المزعجة أن الوقت لا قيمة له إذا لم يكن محمولاً على مركبة الانتباه ، الوقت بلا انتباه يشبه ماءً يتساقط من يدٍ مثقوبة؛ قد تملك نهراً من اللحظات، لكنك تعود آخر النهار بيد فارغة وعقل مشوش.
الانتباه هو الضوء الذي يمنح الزمن شكلاً ومعنى ، يمكنك أن تعيش عاماً كاملاً في غيابك، مشغولاً، مشتتاً، عالقاً في دوامة ردود الأفعال… ثم تدرك أن كل تلك الأيام لم تكن سوى ظلال باهتة على جدار ذاكرتك. وفي المقابل، يمكن للحظة واحدة من انتباه صافٍ أن تتسع حتى تحتوي عمراً كاملاً من التجربة والفهم.
الوقت في جوهره مادة خام… والانتباه هو الحرفي الذي يصنع منها ما يشاء. هناك من يستهلك وقته كمن يحرق خشباً رطباً ، لا حرارة ولا نور، وهناك من يضع انتباهه في قطعة صغيرة من الزمن، فيحولها إلى لحظة نادرة تُحفر في أعماق الذاكرة.
في لعبة البقاء، الانتباه هو العملة الحقيقية. كل ما يشتتك، يسرق منك القدرة على أن ترى العالم كما هو. الزمن سيمر على أي حال… لكن الانتباه هو ما يحدد كيف سيمر. إن جلست أمام غروب الشمس وأنت غارق في شاشة هاتفك، فإن الدقيقة ذاتها التي عاشها آخر وهو يتأمل تغيّر الألوان وانكسار الضوء على صفحة الماء، لم تكن هي نفسها بالنسبة لكما. الساعة كانت واحدة، لكن التجربة كانت عالمين مختلفين.
الانتباه يخلق الحاضر. بدونه، الحاضر يتبخر ويتحول إلى مجرد ماضٍ لم يُعاش حقاً ، لذلك كان أعظم اللصوص في حياتنا هم أولئك الذين يسرقون انتباهنا لا وقتنا. الإعلانات، الأخبار، الضجيج الرقمي، كلها تصنع وهماً بأن وقتك يُستنزف، بينما الحقيقة أن انتباهك هو الضحية الأولى. وحين تُسرق انتباهاتك، يصبح وقتك مجرد هيكل فارغ… صامت، عديم الجدوى.
الفارق بين المبدع والعابر في هذه الحياة ليس حجم الوقت الذي يملكه، بل عمق الانتباه الذي يمنحه لكل لحظة. من يكتب كتاباً لا يملكه لأنه يملك سنوات، بل لأنه يملك انتباهاً كثيفاً يضغط فيه الزمن ليصير أداة طيّعة. ومن يحب حقاً لا يحتاج أن يمنح سنوات من العشرة، بل لحظات من الحضور التام، كأن العالم كله توقف ليصغي.
لكن الانتباه عمل شاق. يحتاج إلى مقاومة تيارات الجذب التي تسحبك بعيداً : القلق على المستقبل، مناقشة الماضي، الإدمان على الضوضاء. الانتباه يتطلب شجاعة أن تقول (لا) لما يقتحم عقلك بلا دعوة، وأن تُبقي نفسك في مواجهة ما هو أمامك الآن، حتى وإن كان صعباً أو مملاً أو يائساً.
إن الوقت قد يساوي المال، كما يقولون، لكن الانتباه يساوي الحياة. ما لم تضعه في بؤرة انتباهك، فإنه لا يحدث حقاً. اللحظات التي تمر بلا وعي، بلا إدراك، بلا تركيز، هي لحظات مسروقة من رصيد حياتك، مهما كان تقويمك مزدحماً بالأحداث.
الزمن يسير على خط مستقيم، لكن الانتباه قادر على طيّه، على جعله يتمدد أو ينكمش. حين تنغمس في تجربة بكل حواسك، يتحول الوقت إلى نهر بطيء متلألئ. وحين تعيش مشتتاً، يصبح الوقت سيلاً جارفاً، يختفي قبل أن تبلل قدميك.
احرس انتباهك أكثر مما تحرس وقتك. فالوقت الذي يمر وأنت غائب عن نفسك لا يعود حتى لو أعطاك العالم سنوات إضافية. أما الدقيقة التي تعيشها بكل وعي، فهي تنجو من الفناء، وتصبح نقطة ضوء تظل تلمع في داخلك مهما مر الزمن.
ختاماً…لن تُقاس حياتك بعدد السنين التي عشتها، بل بعدد اللحظات التي انتبهت فيها حقاً. الوقت إطار، والانتباه هو اللوحة التي تُرسم بداخله. وأحياناً، لوحة واحدة تكفي لتكون حياتك كلها.
إذا أردت أن تعيش.. لا تكتفِ بحساب الوقت، بل اجعل انتباهك ميزانك. الوقت يرحل، لكن الانتباه هو ما يمنح الرحلة معناها.