لم يكن الشاب محمد يوسف القاسم يحمل في حقيبته أكثر من كتب اللغة وأحلام شاب سعودي أراد أن يفتح نافذته على العالم. لم يكن مسلحاً إلا بطموحه، ولم يكن عدواً لأحد، بل مجرد طالب في مدينة كامبريدج البريطانية، حيث يفترض أن يكون العلم أسمى من العنف، والمعرفة أقوى من الكراهية.
لكنه عاد إلى الوطن هذه المرة.. لا بشهادة من معهد، بل بكفن أبيض يحمله الألم، وتسير به الدموع.
محمد، ذو الـ 21 عاماً، خرج في مساء الجمعة 1 أغسطس كعادته، عائداً إلى سكنه القريب من حديقة «ميل بارك». لم يكن في حسابه أن خطواته الأخيرة ستنتهي بطعنة قاتلة في رقبته، غدراً، بلا سبب.
سقط محمد على الرصيف، وارتفعت روحه إلى السماء، بينما بقيت الأسئلة بلا أجوبة.
من يقتل طالباً أعزل؟
من يجرؤ على طعن شاب في عمر الزهور، جاء طالباً للعلم؟
هل كان مجرد اعتداء عابر؟ أم أن خلفه كراهية نائمة، وعقل مريض تغذى على العنصرية والصور النمطية؟
كامبريدج، تلك المدينة التي ارتبط اسمها بالعباقرة والمفكرين، بدت في تلك الليلة وكأنها تخلت عن وجهها المتحضر.
سكان الحي صدموا. زملاء محمد بهتوا. والشرطة بدأت تحقيقاتها، كالعادة. لكن خلف كل هذه الإجراءات، بقي شعور عميق بالخذلان.
هل هذه هي بريطانيا التي تقدم نفسها كراعية لحقوق الإنسان؟ هل هذا هو الغرب الذي يفاخر بحرية التعبير وحماية الأقليات؟
الحقيقة أن ما حدث لمحمد أعاد فتح جرح قديم: أن العنصرية لا تزال موجودة، وأنها قد ترتدي ألف قناع، لكن طعناتها لا تخطئ القلب.
ربما لم يسمع محمد كلمات جارحة في شوارع كامبريدج. وربما لم يصرخ أحد في وجهه «عد إلى وطنك».
لكن العنصرية ليست دوماً بالصوت العالي، بل قد تكون في نظرة، في تصرف عابر، أو في طعنة تأتي بلا مبرر.
نعم، في بريطانيا، كما في غيرها، لا تزال الكراهية تتنفس، تغذيها عقول مظلمة، وتبررها أحياناً سياسات وإعلام متشنج، يعزز الخوف من الآخر، خاصة إذا كان عربياً أو مسلماً.
رسالتي إلى الشباب..
إلى كل شاب يحمل حقيبته للسفر والدراسة، تذكر أن العالم جميل، لكنه ليس آمناً بالكامل.
تذكر أن العلم لا يحمي وحده، وأن المكانة الأكاديمية لا تصنع الحصانة، إن لم تقترن بالوعي والحذر والالتزام.
كن حذراً فى تعاملك مع الآخرين ولا تشارك فى نقاشات حول العنصرية وابتعد عن الأنشطة التى تحركها كراهية الآخرين لأسباب عنصرية وإختلاف فى الأفكار والمبادئ.
وتذكّر دائماً أن السلامة أغلى من أي شهادة.
وإلى كل أب وأم يودعان أبناءهما على بوابات المطارات، لا تكتفوا بالدعاء، بل اغرسوا فيهم حس المسؤولية، وثقافة الحذر، وعلموهم أن الحياة في الخارج ليست دائماً كما ترسم في الصور.
حين نُقتل بصمت، تموت معنا ثقة، وتُذبح أحلام، وتُداس آمال كانت كبيرة.
محمد القاسم -رحمه الله- لم يمت وحده.
مات معه وهم «المدينة الآمنة»، وسقطت ورقة التوت عن بعض ملامح المجتمعات التي لم تزل تعاني من خوفها المزمن من الآخر.
لكن رغم الألم، تبقى رسالة الشاب محمد : أن الطيبين يرحلون، لكنهم لا يُنسون.
وأن الحلم النقي، حتى لو تمزق جسده، فإن روحه تبقى تضيء الطريق للآخرين.
malhajry1@gmail.com