حين نعود إلى حكايات الجدات والأمهات، نفتح بابًا على عالم مدهش، كانت فيه الكلمة تغني قبل أن تعزف الموسيقى، وكانت العبرة تسكن بين سطور الحكاية كما يسكن العطر بين بتلات الورد.
تجلس الجدة تحت ضوء مصباح خافت، أو قرب موقد يهمس بلهيب دافئ، فتبدأ الكلمات في الانسياب، تشد أنفاس الصغار وتربط قلوبهم بخيط خفي من الفضول. لم تكن هذه القصص مجرد تسلية قبل النوم، بل كانت مدارس مصغّرة تعلمنا الحذر من الذئب، والرحمة مع الطيور، والشجاعة في عبور الغابة المظلمة.
هذه الحكايات الشعبية كانت تعرف سرّ المزج بين المتعة والتعليم، وكيف تزرع الحكمة بخيوط ناعمة داخل أحداث مثيرة، فلا يشعر الطفل أنه يتلقى درسًا، بل يعيش مغامرة. لم تكن تحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو تقنيات خارقة، بل إلى خيال حي، وصدق في الحكاية، ورسالة واضحة تصل إلى قلب الصغير قبل عقله. ولو حملنا هذا الإرث إلى خشبة المسرح، لاستطعنا أن نصنع عروضًا تمس وجدان الطفل، وتترك أثرًا لا يزول بانطفاء الأضواء.
لكن إذا نظرنا إلى مشهد مسرح الطفل اليوم، سنجد مسارين متناقضين:
هناك المسرح المدرسي التعليمي، الذي يقف شامخًا رغم تواضع إمكاناته، يقدم روايات بعيدة المدى، يزرع القيم والأفكار في نفوس الصغار، ويؤمن أن الحكاية الصادقة أقوى من أي مؤثر ضوئي أو صوتي. في المسرح المدرسي، الكلمة هي البطل، والممثل – حتى وإن كان تلميذًا صغيرًا – يروي القصة بصدق، لتبقى في قلب الطفل كما تبقى الأغنية الجميلة في الذاكرة.
وفي الجهة الأخرى، يقف المسرح التجاري، يرفع شعاره بالألوان الزاهية، ويغرق في بحر من الموسيقى الصاخبة، والأغاني التي لا تحمل سوى كلمات خاوية بلا معنى. هو مسرح يرقص على السقف المنخفض من المعنى، يطارد الضحكة السريعة، واللحظة البصرية المبهرة، لكنه لا يمنح الطفل فكرة يعود بها إلى بيته، ولا صورة تبقى معه حين ينام.
المفارقة أن الطفل، رغم صغره، يملك حاسة فنية فطرية تلتقط الصدق وتفضح الزيف. يعرف متى تكون الموسيقى جزءًا من القصة، ومتى تتحول إلى ضجيج، ويدرك – دون أن يصرّح – أن المسرح الذي لا يمنحه شيئًا يبقى في فراغ النسيان.
إن إنقاذ مسرح الطفل يبدأ من خطوات واضحة:
العودة إلى النصوص الأصيلة، سواء من التراث الشعبي أو من إبداع كتاب معاصرين يعرفون لغة الطفل واحتياجاته.
دمج الفنون بانسجام، بحيث تصبح الموسيقى، والديكور، والإضاءة، والأزياء خادمة للقصة، لا منافسة لها.
تدريب الممثلين على التفاعل الحي مع الأطفال، لأن الطفل يقرأ الصدق من النظرة والحركة والنبرة.
الموازنة بين الترفيه والتثقيف، فالمسرح الذي يكتفي بالضحك يفرّغ نفسه من المعنى، والذي يكتفي بالموعظة يثقل على الطفل.
إحياء الحكايات الأم، وتحويلها إلى مشاهد نابضة تعيد للطفل إحساس الانتماء لجذوره.
في النهاية، المسرح ليس سلعة تُستهلك وتنتهي، بل رسالة تعبر من قلب الممثل إلى قلب الطفل. والمسرح الذي يرقص بلا معنى سيظل أسير لحظة التصفيق، أما المسرح الذي يحكي قصة صادقة فسيبقى حيًّا، يتنفس في ذاكرة الطفل حتى حين يسدل الليل ستائره.
ayaamq222@gmail.com