dr0lamia@gmail.com
في زمن تتقلب فيه الأسواق العالمية وتتصاعد فيه التحديات الجيوسياسية، لم يعد نجاح المالية العامة يُقاس بالفوائض فقط، بل بقدرة الدولة على الحفاظ على أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية وسط المتغيرات. وهنا، تأخذ ميزانية المملكة للربع الثاني من عام 2025م مكانتها كمؤشر على مرونة السياسة المالية ومتانة البنية الاقتصادية، لا سيما حين يُقرأ أداؤها تحت ضوء رؤية السعودية 2030.
بلغت الإيرادات الإجمالية للربع الثاني نحو 302 مليار ريال، منخفضة بنسبة 15% عن نفس الفترة من العام السابق، بفعل تراجع أسعار النفط. لكن اللافت أن هذا الانخفاض لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان محسوبًا. إذ سجلت الإيرادات غير النفطية نموًا بنسبة 7%، لتبلغ 150 مليار ريال، مما قلص فجوة التراجع وعبّر عن تقدم فعلي في جهود تنويع مصادر الدخل وتحقيق أحد ركائز الرؤية.
أما المصروفات، فقد بلغت 336 مليار ريال، بانخفاض قدره 9%، وهو ما يعكس قدرة الدولة على إعادة توزيع الإنفاق بمرونة ووفق أولويات وطنية مدروسة. وعلى الرغم من هذا الانخفاض، فإن قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية حافظ على مكانته في مقدمة الإنفاق، بواقع 139 مليار ريال خلال النصف الأول من العام. وهذا يؤكد أن البوصلة لا تزال موجهة نحو الإنسان، وأن الكفاءة لا تعني التقشف، بل ترشيد الموارد دون المساس بجودة الخدمات الأساسية.
هذه المعادلة – بين الحفاظ على الأولويات وترشيد الإنفاق – لا تُبنى بالقرارات المالية فقط، بل تستند إلى بنية مؤسسية ناضجة. مثال ذلك في القطاع الصحي: فكلما تم تمكين الممارس الصحي بقرارات مهنية واضحة وصلاحيات محددة، قلّ الهدر الناتج عن تدخلات غير مبررة أو طلبات تفتقر للضرورة الطبية. وعليه، فإن كفاءة الإنفاق ليست فقط في بند الميزانية، بل في آلية اتخاذ القرار وتنفيذه.
على جانب سوق العمل، سجلت الميزانية نتائج مشجعة. انخفضت البطالة بين السعوديين إلى 6.3%، وهو أدنى مستوى تاريخي، مما يعكس أثر الإصلاحات الاقتصادية وتمكين القطاع الخاص. كما شهد مؤشر الإنفاق الاستهلاكي نموًا بنسبة 4.5%، بما يدعم فرضية ارتفاع ثقة المواطن في الاقتصاد، وتحسّن دخله، وقدرته على التفاعل مع النمو التنموي حوله.
إن قراءة هذه الأرقام في سياق رؤية 2030 تكشف عن توجه واعٍ لا يساير الدورة الاقتصادية، بل يسعى إلى كسرها عند الحاجة. فبدل الانكماش مع تراجع الإيرادات النفطية، تم تعزيز مصادر الدخل الأخرى، وتحفيز الاقتصاد الرقمي، ودعم الاستثمار المحلي والأجنبي. ولعل نمو التجارة الإلكترونية بنسبة 63% في هذا الربع، وارتفاع مؤشر مديري المشتريات إلى 56.2 نقطة، يشيران إلى ديناميكية اقتصادية لا تزال تنبض رغم التحديات.
في المحصلة، تبدو ميزانية الربع الثاني شهادة نجاح على مرونة الاقتصاد السعودي، ودليلًا على قدرة وزارة المالية على الموازنة بين أهداف النمو والاستدامة، وبين متطلبات المواطن والمستقبل. فكل رقم حمل في طياته رسالة، وكل تراجع قابله بديل مدروس، وكل إنفاق وُجّه نحو ما يرفع من جودة حياة الفرد والمجتمع.