mohmed_z@hotmail.com
أمران اثنان لم أعتني بهما في حياتي مثلما كنت أعتني بالكتاب وما كان يرتبط به من بحث ومتابعة واقتناء ، وما يفرضه من جهد وسفر لحضور معارض الكتب والالتقاء والحوار مع المبدعين والمثقفين في عواصم المدن العربية والغربية ، وقبل هذا وذاك قراءة ومتابعة كل جديد في عالم الثقافة والكتابة عنه بشغف ومحبة حتى كاد يشكل عالمي الوحيد الذي أراه أمامي في الحياة .
الآن بعد أربعة عقود مضت من هذا الشغف، أجد أنني فوّتُّ على نفسي متعة الاعتناء بأشياء لها طابع الضرورة في حياتنا اليومية، وهي أشبه ما تكون، لسعة تنوعها وكثرتها، بعوالم قائمة بذاتها.
وليس عالم المطبخ وعالم التسوق سوى هذين الأمرين اللذيْن لم أكن يوما ما حسبما ترويه ذاكرتي قد شغلا حيزا كبيرا من وقتي أو تفكيري.
لكن ما الذي أعنيه بمتعة الاعتناء؟ وهل من الضرورة أن يكون وضع عالم المطبخ والتسوق إزاء عالم الكتب والثقافة وضعا صحيحا؟ أليس من الإجحاف وضع ما هو زائل ويومي في تناظر مع ما هو أزلي ودائم ، بين ما يرتبط بالجسد من جهة وما يرتبط بالعقل من جهة أخرى؟
لا أريد هنا أن أبرر لنفسي من خلال استحضار هذا التناظر لأقول أن قيمة ثقافة العقل تعلو على قيمة ثقافة الجسد ، وأن الفصل بين الثقافتين هو أمر وارد وطبيعي في جل الثقافات التي ترتبط بمختلف المجتمعات بينما الحال هو عكس ذلك تماما. ولا أريد أن أدلل أيضا من ثقافة المجتمعات في التاريخ وسير كبار المفكرين والمبدعين والفلاسفة على موقع الطعام والأكل والمطبخ في حياتهم وفي متونهم الفكرية وخطاباتهم الفلسفية، فهذا ما لا يختلف عليه اثنان من الأهمية ، بالخصوص في الثقافة المعاصرة.
لكن ما أريد توضيحه من خلال هذا الاستحضار أن حياتنا المعاشة في شكلها اليومي لا تجري مجرى الفصل بين الثقافتين ، ولا ثمة حدود فاصلة بينهما سواء داخل الجسد أو خارجه، وهذا ما حاولته فلسفات عديدة خرجت من رحم الفلسفات المادية والمثالية . لكن متعة المطبخ لا ترتبط فقط بما تقوله هذه الفلسفات عن ثقافة الطبخ والأكل وآثارها على التفكير والعادات والقيم الاجتماعية.
إنما المتعة الحسية والجمالية هي أن تكتسب خبرة في طرق الطبخ ومكونات الأكلات وتراكيبها وهي خبرة لا تقل متعة عن متعة خبرتك بقراءة كتاب أو الحديث عنه ،بل هناك تراسل بينهما بصريا وسمعيا وروائحيا، فالكلمات تطبخ تحت نار المخيلة والعقل مثلما الأرز يطبخ تحت حرارة الأفران .
عندي أصدقاء ماهرون في الطبخ ، وشغفهم وفرحتهم الكبرى أن يروك سعيدا وأنت تتذوق طعامهم ويأخذهم الحماس أكثر حين تسألهم بانبهار وإعجاب عن مكونات الطبخة ودقة مقاديرها. تصور كيف يكون شعورك عندما أحدهم يثني على كتاباتك أمام جمع من الناس؟
مثل هؤلاء كما أعرفهم لا يدّعون ولا يتحدثون كثيرا عن خبرتهم في الطبخ إذا لم تسأله ، البساطة لباسهم ليس مثلما هو حال البعض من ” المثقفين” الذي يضع خبرته موضع قمة الجبل الذي لا يطاله أحد، وهو لا يملك في جعبته سوى الأفكار والأفكار فقط.
وإذا كان الطبخ يولد متعة جمالية حسية فالتسوق لا يقل شأنا عن مثل هذه المتعة ، فالتسوق بالمعنى الجمالي هو إطلاق إمكانات الجسد في فضاء محتشد بكل المظاهر والأشياء التي تحفز جسدك على التفاعل روحيا ونفسيا وثقافيا واجتماعيا ناهيك عن الخبرة المادية المكتسبة.
النظرة إلى التسوق بهذا المفهوم لم يكن يوما مفكرا فيه ، على الأقل بالنسبة لي. قد تكون تربيتنا الاجتماعية والثقافية حددت لنا المعايير والوظائف ترتبط بحياتنا اليومية ، فهناك المعيار النفعي الذي يندرج تحته مفهوم التسوق في ثقافتنا المحلية.