في عالمٍ استطاعت الكاميرا أن تحقق ما لم يستطع الإنسان تحقيقه، فهي واجهة جديدة لتوثيق حياة الإنسان، فقد كانت الكتب هي الوسيلة الوحيدة لتوثيق حياة الإنسان، لكن جاءت الكاميرا لتتخطى هذه الوسيلة التقليدية، وأصبحت موجودة في كل منزل وفي كل يد، فمن خلال الهواتف المحمولة وما تحمله من مميزات، ومنها الكاميرا، فقد بدأ الإنسان يوثّق حياته بنفسه من دون تدخل من أي جهة أو ارتباط، فيقوم بتوثيق رحلاته وإنجازاته وأحلامه وذكرياته من خلال هذه الكاميرا المصاحبة لهاتفه.
فالإنسان بطبعه يحب المحافظة على خصوصية حياته الشخصية، ولكن بعد أن أصبحت الكاميرا وسيلة للتفاعل الاجتماعي، بدأ الإنسان بالتغيّر، وذلك من خلال التقاط الصور من حياته الشخصية ومشاركتها فورًا، وكل ذلك من أجل ذلك الشعور بأنه مواكب للحقبة التي يعيش فيها، ومن أجل تعزيز الشعور بالانتماء والتواصل، فكم من صورة تم التقاطها بلا هدف أو معنى أو فائدة! وكم من صور نُشرت لمجرد إثبات وجود! وأصبح التّصنّع شيئًا أساسيًّا في التقاط الصور؛ فيجب تصنّع الضحك أو الابتسامة أو اللحظة ذاتها من أجل أن تكون الصورة جميلة تُبهر الجمهور.
فالأمر أصبح أسوأ من ذلك؛ فالإنسان بات لا يتقبّل ذاته، فيقوم باستخدام البرامج مثل الفوتوشوب لتغيير مظهره، سواء كان ذلك لتغيير ملامح الوجه وما يحمله من عيوب كالحبوب أو غيرها، أو الجسم، فأصبح الإنسان مهووسًا يبحث عن الكمال، وهو أمر مستحيل العثور عليه.
واقتحام الخصوصية لم يتوقف عند هذا الحد، بل دخل المنازل؛ فمشاكل العائلات أصبحت أقرب إلى ما يكون إلى قضية رأي عام، حيث يقوم الفرد بنشر مشكلة عائلته من خلال صورة أو فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، ويترك الجمهور يقومون بعمل التحليل والتفسير للمشكلة، وتكمن المشكلة هنا في أن الجمهور ليس مؤهّلًا لحل مشاكل الآخرين؛ فالجمهور جاهل بجوانب كثيرة عن المشكلة، ولهذا فإن الحل الذي سوف يبديه الجمهور لن يكون كافيًا لحل المشكلة، بل أقرب إلى أن يكون عقيمًا بلا فائدة حقيقية، والمشاكل العائلية يجب أن تظل في المنزل؛ احترامًا لحرمة وخصوصية أهل البيت.
ومن أبرز الآثار السلبية التي قد تتركها الكاميرا على الصحة النفسية، خاصة في عصر الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، هو القلق المرتبط بالمظهر؛ إذ تؤدي كثرة التقاط صور “السيلفي” والمقارنة بالآخرين على منصات مثل إنستغرام أو تيك توك إلى تدني احترام الذات وظهور اضطرابات في صورة الجسد، كما يظهر تأثير سلبي آخر يتمثل في الإدمان على التوثيق، حيث يصبح الشخص منشغلاً بشكل دائم بتصوير وتوثيق كل لحظة بدلاً من عيشها، مما يزيد من مستويات القلق ويقلل من الشعور بالارتباط الحقيقي بالواقع، إضافة إلى ذلك، فإن ضغط المثالية الناتج عن الرغبة في تعديل الصور أو الظهور بأفضل شكل أمام الجمهور الرقمي قد يسبب توتراً دائماً وقلقاً اجتماعياً، خاصة عند الشعور بعدم مطابقة الصورة المنشورة للواقع الحقيقي. كما توجد دراسة من جامعة بنسلفانيا وجدت علاقة بين كثرة مشاركة الصور الشخصية وزيادة مستويات القلق الاجتماعي لدى المراهقين.
وقد تكون الكاميرا أداة فعّالة ومساعدة للصحة النفسية عندما تُستخدم بشكل إيجابي وواعٍ، بعيدًا عن ضغوط المقارنة والمثالية، فعلى سبيل المثال، يمكن للتصوير أن يكون وسيلة للتعبير عن الذات وتفريغ المشاعر، خاصة لدى من يجدون صعوبة في التعبير بالكلمات، مما يعزز الشعور بالراحة والاتزان. كما أن ممارسة التصوير بهدف توثيق اللحظات الجميلة أو التركيز على التفاصيل اليومية يمكن أن يعزز اليقظة الذهنية ويساعد الفرد على الحضور الكامل في اللحظة الراهنة، كذلك فإن استخدام الكاميرا ضمن سياقات إبداعية مثل التصوير الفني أو مشاريع شخصية قد يرفع من مستوى الرضا الذاتي والثقة بالنفس، وعندما تُستخدم الكاميرا بوعي، تصبح أداة للتأمل والشفاء والتواصل الإيجابي، بدلاً من مصدر للضغط أو القلق.
elione848@gmail.com