في زمن التواصل الفوري والانتفاخ المعلوماتي، لم يعد الجاهل ذاك الذي لا يقرأ ولا يكتب، بل صار هو الذي يقرأ كل شيء ولا يفهم شيئاً، يكتب كثيراً ولا يقول شيئاً، يناقش مطولاً ولا يقترب من جوهر الفكرة.
يُخيفك الجاهل الذي لا يدرك أنه جاهل، أما الجاهل الذي يعتقد أنه مثقف، فهو كارثة تمشي على قدمين، ستجده يخوض في كل علم، ويُفتي في كل تخصص، ويتنقل بين النقاشات كما تتنقل الحشرات بين المصابيح.
الأمية المقنعة لها طبقات، بعضها يرتدي بدلة رسمية، وبعضها يحمل لقباً أكاديمياً ، وبعضها يدير مؤسسات، أو يُعلّق على الشاشات، أو يملأ المنصات الاجتماعية بتفاهات مغلّفة بالبلاغة، وتزداد الخطورة حين تتحول هذه الأقنعة إلى مرجعية، فتُمنح الثقة لمن لا يستحق، ويُتّبع من لا يعرف الطريق.
في عالم يختلط فيه الصوت العالي بالحجة، والكثرة بالحقيقة، والانتشار بالقيمة، يصبح الصمت معرفة. أن تصمت في حضرة الجهلاء المتفذلكين أصبح شكلاً من أشكال المقاومة النبيلة لأن الكلام وسط الجعجعة لا يُسمع، والحقائق تُدفن تحت طبقات من الزيف البليغ ، لم تعد المشكلة في من لا يعرف، بل في من يجهل أنه يجهل، ويعتقد أن معرفته نصف الطريق، بينما هي في الواقع حائط صدّ يمنعه من الوصول أصلًا.
اللغة، أداة العقل، أُصيبت في هذا الزمن بالتضخم الكاذب.
صار كل من يعرف ترتيب الكلمات يظن أنه مفكر، وكل من يُجيد تركيب الجمل يظن أنه فيلسوف. أما العمق، والتأمل، وتفكيك المعاني، فقد أُحيلت إلى التقاعد.للأسف، فإن هذه الأمية المقنّعة تُنتج رأياً عاماً مريضاً ، ونخبة زائفة، وتيارات فكرية مصنوعة في غرف مغلقة، لا تملك جذوراً ولا رؤى، الأمية المقنّعة تُحب التصفيق، تعشق المجاملات، وتخاف من الأسئلة. لذلك تحيط نفسها بأشباهها، وتطرد المختلفين، وتستبدل الحوار بالادّعاء. إنها لا تنمو إلا في بيئة تخاف النقد، وتُقدّس الرداءة. ولذلك تراها تتكاثر في المؤسسات، وتتسلل إلى الإعلام، وتنتشر في التعليم، وتعلو في السياسة، حتى تتحوّل المجتمعات إلى قطعان من المتناقضات: تعرف كل شيء، ولا تفهم شيئاً..!
في قلب هذه الأزمة، يولد سؤال مرّ: كيف يمكن لأمّة أن تتقدم بينما تفكّر بعقل غيرها، وتتبنّى أفكاراً لا تفهمها، وتقلّد سلوكاً لا يناسبها؟ كيف ننتج نهضة إذا كنا لا نجرؤ على الاعتراف بأن جزءاً كبيراً مما نُسمّيه معرفة، هو في الواقع استعراض أجوف؟ نحتاج إلى ثورة داخلية، لا تبدأ من الكتب بل من الشجاعة: شجاعة الاعتراف بأننا نحتاج إلى إعادة تربية عقولنا، وتنظيف معرفتنا من الزيف، وإعادة تعريف معنى أن تكون مثقفاً في زمن اختلط فيه البريق بالحريق.
إن أخطر أنواع الجهل، هو الجهل الذي يرتدي ثوب المعرفة، ويخدع الناس باسم التنوير. حين يختلط الباطل ببعض الحق، يُصبح كشفه أصعب، وهنا تكمن مأساة الأمية المقنعة.
إن الخطر الحقيقي ليس في الجهل، بل في غياب الوعي بالخطر. أن تمضي حياتك متوهّماً أنك تعرف، وأنت لا تعرف حتى حدود ما تجهل، فتلك مأساة لا تُنقذها كل الكتب ولا كل الألقاب. الأمية المقنعة سرطان ناعم، لا يُميت بسرعة، بل يُنهك الفكر، ويُشوه المعنى، ويقتل المستقبل تحت شعار مستعار.
فلنتوقف عن تزيين الجهل. لنمزّق الأقنعة. فالمعرفة لا تُقاس بعدد الكلمات، بل بعمق السؤال.
mohalarab75@gmail.com