تدخل إلى منزلك بعد عناء يوم طويل، لتستقبلك تلك الرائحة الزكية التي تستشعرها حواسك، ويترجمها عقلك بأنها كعكة فدج الشوكولاتة اللذيذة، لترتسم على محياك تلك الابتسامة العريضة، وتبدأ باستعراض سيناريوهات عديدة، ما الذي أود احتساءه معها؟ أكوب من القهوة السوداء الداكنة؟ أم كأساً دهاقاً من لذيذ كتب الشعر وأبياته التي تعزف أحاسيس مترفة، رقيقة؟، أو تستمع لحديثٍ يطرب مسمعك من أهلك وأحبائك أو تشاهد مسلسلاً تحبه وتسعد بحبكة قصته.. ولكن عندما تقدم لك قطعة الكعك على ذلك الصحن المزين بألوانه المذهّبة، تخطر على ذهنك فكرة شريرة! تدعى «ماذا لو؟»!
ماذا لو وضعتي قليلاً من سكر صبرك؟ ماذا لو أضفيتِ بعضاً من بريق وجهك؟ ماذا لو سكبتي الدفيء من احساسك؟ كيف سيكون طعمها؟ .. لماذا تستحل سرقة بعضي مني؟ لماذا تريد أن تزيد حلاوة كعكتك من دمي، وضياء وجهي؟ كلها إن أعجبتك، واستحسنت طعمها، أو اترك كعكتي كما هي تحفةً فنيةً لمن يستحقها فقط.. لن يشعر بغني طعمها إلا ذو ذائقة فريدة..
هناك وصفات لا تقبل أصالتها المس أو التعديل فتفقد هويتها… لا عيب في التعديل والتغيير ذاته، فهو من نتائج طبع الفضولية في البشر، ولكن لا تقتل اللحظة، فيما لا تستطيع قوى الدنيا أجمع، بإعادتها كما كانت، ولا حتى إعادتها بشكل آخر..
أما كان لك أنت تستمع بقطعة الكعك تلك؟ أم أن تلك الفكرة الشريرة كانت أقوى منك؟ لا تغضب إن لم يعجبك وصفها بالشريرة.. ولكنها لم تكن فكرة حسنة على الأقل.. فسمّها ما شئت عدا ذلك..
كثيرون هم المحللون حولنا، يمتازون بقوة الملاحظة، وحسن استقراء واستبصار الأمور، ولكن هل نحن أقوياء بما يكفي لتحمل ما سيخبروننا به؟ هل سيكون التوقيت مناسباً؟ هل نحن مستعدون لسماع الحقيقة؟ والسؤال الأخطر: هل نحن مستعدون لعواقب كشف الحقيقة؟.. ليس دائماً.. نعم ليس دائماً، في ميادين الأرقام، والعلوم، والفيزياء، والنقد، وأسواق المال، نعم، كشف الحقيقة بعواقبها وثمنها مهم جداً، ولكن في ميادين العلاقات، لا، الأمر مختلف، الرابح في ساحة الجدال قد يكون الخاسر الأكبر، هناك علاقات تصان، وأشخاص لا يتكررون، ليسوا لأنهم محور الحياة، بل لأنهم هم الحياة ذاتها لنا، هم النفْسُ والنَفَس.
قد يعارض كثيرون هذه الأفكار، ولكن التاريخ أثبت لي صحتها بالدليل القاطع، عندما نقلب دفتي التاريخ نجد أن للآثار عمقاً وقصةً وهوية، أما الآن وبدافع الحداثة والعصرية والموضة ومواكبة الحياة السريعة والصاخبة، اختفت النقوش والزخارف من تصاميم مدننا وبيوتنا، أصبحت متشابهة إن لم تكن متماثلة، لا ترمز لنا بشفرة مميزة خاصة بنا، ولا تحمل معانٍ سامية أصيلة عنا، لن تحمل قصتنا كاملة للقادم من بني أجيالنا، ولكن الأدب يتفوق على التاريخ، بأن له موهبة خاصة في قراءة شفرات ذات ترددات تشبه موجات الراديو، فهو ينقل صوراً وأحاسيس وعادات و شهد مفردات تحمل في طياتها عبق طيب عود مجالسٍ لم يدون التاريخ محاضر انعقادها، بل استأثر الشعر بها وحده فقط.
bshaleid@live.com