أذكياء.. لكن أغبياء

يعتقد كثيرون أن الذكاء هو درع منيع يحمي صاحبه من الوقوع في الأخطاء، أو التورط في الأفكار الغريبة، أو اتخاذ قرارات سيئة. لكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك تمامًا. فبحسب عدد من الدراسات النفسية الحديثة، لا يرتبط الذكاء دائمًا بالحكمة أو التفكير السليم، بل قد يتحوّل في بعض الأحيان إلى أداة تساعد الإنسان على خداع نفسه!
في دراسة شهيرة أجراها الباحث والعالم المعرفي مايكل شيرمر، وُجد أن الأشخاص الأذكياء جدًا «أصحاب الدرجات العالية في اختبارات الذكاء» كانوا أكثر قدرة على تبرير أفكار خاطئة آمنوا بها مسبقًا، حتى عندما كانت تلك الأفكار غير منطقية أو خالية من الأدلة. يقول شيرمر: «الأشخاص الأذكياء يصدقون أشياء غريبة لأنهم بارعون في الدفاع عن معتقدات وصلوا إليها لأسباب غير ذكية» بمعنى آخر، الذكاء لا يمنعنا دائمًا من تصديق الخطأ، بل يمكن أن يساعدنا على «تزويقه» وتبريره بطرق تبدو عقلانية!
وهنا تكمن المفارقة: نحن في كثير من الأحيان لا نُكوِّن قناعاتنا بناءً على تفكير منطقي، بل بناءً على عواطفنا، ميولنا، تجاربنا السابقة، أو حتى رغباتنا الشخصية. وبعد أن نقرر ما نؤمن به، نبدأ في استخدام ذكائنا للبحث عن الحجج التي تدعم ما اخترناه. وهذا ما يُعرف في علم النفس بـ»التحيّز التأكيدي»؛ أي الميل لتصديق ما يدعم وجهة نظرنا وتجاهل ما يخالفها.
المشكلة أن هذا النمط من التفكير لا يقتصر على عامة الناس، بل يمتد إلى العلماء والمثقفين وحتى صناع القرار. فقد أظهرت دراسة نشرتها مجلة -Behavioral and Brain Sciences – أن العلاقة بين مستوى الذكاء والقدرة على كشف التحيزات الذهنية ضعيفة جدًا، بل إن بعض الدراسات وجدت أن الأذكياء أكثر عرضة للثقة الزائدة بالنفس، مما يجعلهم أقل استعدادًا للاعتراف بالخطأ أو مراجعة قراراتهم.
وفي كتابه – The Intelligence Trap -، يوضح الصحفي العلمي ديفيد روبسون كيف أن الذكاء قد يتحول إلى فخ، حين يُستخدم في الدفاع عن معتقدات خاطئة أو في اتخاذ قرارات مالية ومهنية متهورة، فقط لأن صاحبه يثق كثيرًا بقدراته العقلية. بل وبيّن أن بعض المفكرين الكبار وقعوا في أخطاء جسيمة، ليس لأنهم أغبياء، بل لأنهم لم يشكوا في صحة أفكارهم بما فيه الكفاية.
إذن، ما الذي يمنع الإنسان من الوقوع في التحيز؟ الجواب ليس الذكاء وحده، بل الوعي الذاتي والتفكير النقدي والتواضع. فحين يدرك الإنسان أنه معرض للخطأ مهما بلغ من علم أو ذكاء، يصبح أكثر قدرة على مراجعة أفكاره، والانفتاح على الآراء الأخرى، والتعلم من تجاربه.
قد يكون الذكاء مفيدًا في حل المسائل الرياضية، أو فهم النظريات المعقدة، أو كتابة المقالات، لكنه ليس ضمانًا للقرار الصائب في الحياة اليومية. فكم من أناس بسطاء يمتلكون حسًّا سليمًا وبصيرة نادرة، وكم من عباقرة وقعوا في فخ الكِبر والثقة الزائدة.
في النهاية، ربما نحتاج أن نعيد تعريف الذكاء الحقيقي فهو لا يقتصر على سرعة الفهم أو قوة التحليل، بل يشمل أيضًا القدرة على الشك، والمراجعة، والاعتراف بأننا مهما كنا أذكياء لسنا دائمًا على صواب.
ahmadsinky@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *