كتابة السيرة الذاتية هي ضرب من ضروب أدب الاعتراف التشويقي الذي إن لم يكن لتخليد الإسم فهو لتوثيق التجربة وفي داخل كل إنسان منا سيرة بها مواقف تستحق أن تروى قد تكون صعبة عند الكثيرين لما تتطلبه من فكر ومهارة كاتبها لا يكذب ولكنه لا يستطيع أن يقول الحقيقة كاملة فهناك ذكريات تتمنى عودتها وهناك مواقف أخرى تتمنى تمزيق أوراقها على الرغم من أنه لا يمكن لأي قوة كانت أن تحجب تلك المواقف.
والسيرة الذاتية عند أصحاب الشأن قد تستحق أن تكتب إلا أنها عند غيرهم ربما لا تصلح إلا أن تروى فهي على أقل تقدير جميلة في عيني صاحبها فمثلا نحن أبناء جيلين وربما ثلاثة جمال الحياة عندنا أن تعيشها كما هي لا كما تود أن تعيشها أنت تتقلب كتقلب فصولها وتتبدل كتبدل شهورها لا نشك أن بعض مراحلها قاسية إلا أن معظم محطاتها جميلة وبطبيعة الحال فأنت ترى مساراتها غير معبدة إلا أنك تستطيع السير فيها حسب تقاطع الظروف والأحوال إلى أن تصل إلى أرذل العمر.
ففي قريتنا رغدان عشت كما عاش أقراني أول الحركات وتعلمنا فيها أول الأبجديات، فكان لنا في كل زاوية منها قصة وعلى كل صخر لنا فيه صوت وفي قلب كل منا صورة بيوتنا ثَم متشابكة ومتقاربة كتقارب قلوب ساكنيها رأيناهم كيف كانوا يتقاسمون «اللقمة والجغمة» نعم لم يكن في جيوبهم شيئ ولكن في قلوبهم رصيد يغنيهم عن كل شيئ وبالتالي فذكرياتنا في قريتنا لاتنسى ومواقعنا فيها لا تمحى في الحارة في الساحات في المدرسة في الملاعب وفوق الصفيان وتحت الأشجار في ليل كان أو نهار .
صندوق الذكريات مليئ بالمشاعر الحلوة عند كل زملاء ذلك الجيل وإن كان منهم من قضى نحبه رحمهم الله جميعا نتذاكرها دائما كلما تواصلنا نتذكر منها ليالي رمضان وأيام الأعياد ونعرج على كثير من المناسبات فجيلنا بالتأكيد ونحن من يوم كنا صغاراً رعينا الغنم وركبنا الحمير واستأنسنا بالجمال وحمينا الطير وساهمنا بالزراعة تشهد لنا بذلك الجلّة التي اندثرت والجبال التي نُسفت والركبان التي عمرت والآبار التي طمست والجدران التي تصدعت والمساريب التي كشطت ألعابنا فيها محلية وعلاقاتنا حصرية تمتد كامتداد جذور قريتنا الغناء التي كتب لنا تاريخها الأجداد والآباء .
كل ذلك وأكثر تذكرته عندما زرت قريتنا الحجرية فجرني الحنين إلى بيتنا القديم بل إلى مكان تلك الأرواح الطاهرة التي فقدناها رحمة الله عليهم وعلى كل من جاورهم جداراً جدارا وساحة ساحة واليوم غيّرنا الأماكن وتبادلنا المواقع ومضى كل إلى غايته.
أما الحقيقة فنحن وإن سكنت أجسادنا المدن فإن أرواحنا باقية في غياهب قريتنا الشامخة وآخر القول تحية لكل الأقران وسلام عليك يا رغدان.
a2-t2@hotmail.com