تبدأ القصة غالبًا بكذبة بيضاء، تمشي على أطراف الخجل، تتسلّل بخفّة بين طبقات الضمير كأنها لا تحمل من الذنب شيئًا، ولا من الألم أثرًا. تمرُّ على العقل كنسمة لا تُؤبه، وعلى القلب كعذرٍ يبدو بريئًا، فلا تُواجه ولا تُقاوَم. لكنها، وإن بدت وديعة في أول الأمر، لا تلبث أن تخلع برقع البراءة، وتستأنس الطريق إلى اللسان. تُقال مرة، ثم تتكرر، حتى تُصبح عادة، ويغدو الضمير زائرًا خجولًا لا صوت له، يتوارى خلف تبريرات متراكمة.
في أعماق الدماغ، داخل «اللوزة الدماغية» تلك المنطقة المسؤولة عن معالجة مشاعر الخوف والإنذار بالخطر تحدث التحولات. أول كذبة توقظ اللوزة، ترفع صوت الإنذار عاليًا، يُخيف الجسد ويقظّ الضمير. لكن مع التكرار، ينخفض ذلك الصوت، يبهت، حتى يصمت. إنها ليست مجرد بلادة أخلاقية، بل تكيّف عصبي دقيق: الدماغ يعتاد الكذب، ويكفّ عن التعامل معه كتهديد. تتخدر الأحاسيس، ويتراجع الرفض الداخلي، ويُعاد تشكيل الوعي ليتقبل ما كان في الأمس مرفوضًا.
في دراسة نُشرت عام 2016 بمجلة «Nature Neuroscience»، توصّل الباحثون إلى أن اللوزة الدماغية تستجيب بشكل أضعف كلما تكررت الأكاذيب، مما يسهّل الكذب في المستقبل. ليست المسألة ضعف إرادة أو قلة ضمير، بل إعادة برمجة تدريجية تقودها العادة ويعززها التبرير. الكذبة، إذ تتكرر، تتحول من انحراف فردي إلى نمط عصبي مستقر.
وللذاكرة دور كبير في هذا الخداع، فهي ليست صندوقًا مغلقًا يحفظ الأحداث كما وقعت، بل هي مرنة وقابلة للتشكيل والتأثر. ففي تجربة نُشرت عام 2004، شاهد مجموعة من المشاركين مقطع فيديو يصوّر جريمة ارتُكبت، ثم طُلب منهم أن يصفوا الجاني، لكن بشرط: أن يقدّموا أوصافًا كاذبة عن عمد، أي أن يختلقوا تفاصيل غير موجودة أصلًا. وبعد مرور أسبوع فقط، عاد الباحثون وطلبوا من المشاركين استرجاع ما شاهدوه في الفيديو.
المفاجأة كانت أن الكثير منهم لم يتمكنوا من التمييز بين ما رأوه فعلاً وما كذبوا به سابقًا. بل إنهم تحدثوا عن التفاصيل المختلقة وكأنها جزء أصيل من المشهد الحقيقي. لقد اندمجت الكذبة في نسيج الذاكرة، واختلطت بالوقائع الأصلية، حتى بات من المستحيل تقريبًا فصلهما عن بعض.
بعبارة أخرى، ما كان في البداية كذبة متعمّدة لاختبارٍ نفسي، تحوّل بفعل التكرار والزمن إلى «ذكرى حقيقية» داخل الوعي. فالدماغ لا يكتفي باختراع الأكذوبة، بل يُعيد تسجيلها في الذاكرة، ويعاملها لاحقًا كما لو كانت حقيقة عاشها بالفعل. وهذا يكشف جانبًا خطيرًا من سلوكنا البشري: إننا لا نكذب فقط على الآخرين، بل قد نكذب على أنفسنا… ثم نصدّق الكذبة ونبني عليها تصورنا عن الواقع.
ذلك لأننا لا نحمل ذاكرة حيادية، بل نصوغها كحكاية. لا نُسجّل ما وقع كما هو، بل كما نحتاج أن نراه. وتحت ضغط الخوف، أو تأنيب الضمير، أو الرغبة في النجاة، يعيد الدماغ كتابة القصة: يحذف، يضيف، يبرر. قد يُحوّل الجاني إلى ضحية، والخطيئة إلى ظرف، والذنب إلى صدفة عابرة.
ومع الوقت، لا تبقى الكذبة البيضاء مجرد هفوة، بل تُصبح نواة تُبنى حولها منظومة كاملة من الأكاذيب الصغيرة والكبيرة. يكبر الزيف، وتتشكل حوله شبكة معقدة من الأعذار والإنكارات، ويتحول التلاعب بالحقيقة من سلوك مرفوض إلى آلية بقاء. لا يعود العقل مشغولًا بما حدث فعلًا، بل بما يستطيع تحمّله والتصالح معه.
إن الكذبة البيضاء، مهما بدت عابرة، ليست مجرد جملة نُسقطها لتجاوز موقف، بل قد تكون الشرارة الأولى لانهيار داخلي طويل الأمد.
الحقيقة ليست دائمًا ناصعة، والضمير ليس دائمًا مستيقظًا، والماضي ليس دائمًا ما حدث.. بل ما اخترنا أن نصدّقه. ومن رحم الكذبة البيضاء، يُمكن أن يولد واقع مشوّه، ومستقبل هش، وعدالة مُغتالة، وإنسانٌ يُعاد تشكيله لا على صورة الحق، بل على مقاس الهوى.
ahmadsinky@hotmail.com